ينطوي النفاق السياسي على مبالغات لغوية وذهنية فاضحة، يكون لها وقع صاخب على الآذان، رغم أن الجذر اللغوي لكلمة “نفاق” أقل بكثير من أن يمنح هذا الضجيج، نظرا لخسة المنافق ونزوعه إلى الهروب والتزلف والانزلاق والمراوغة، بما يجعل من الطبيعي أن لا يمتلك صوتا عاليا، وصل إلى حد أن يطلق عليه البعض اسم “التطبيل”. فالكلمة مستمدة من النفق أو الجحر الذي تحفره بعض الحيوانات، وأبرزها الأرانب، وتصنع له فتحتين، فإن هوجمت من إحداهما تهرب من الأخرى.
فالمنافق له وجهان: ظاهر وباطن، ويُسخِّر هذه الازدواجية في عالم السياسة للإيقاع بمن يستهدفه عبر الغش والتدليس، فإن كان هدفه الحاكم أراد من نفاقه أن يحصد ذهبه، ويتقى سيفه، غير عابئ بالمصلحة العامة، أو حتى متحيز، على المستوى العميق والطبيعي، لمصلحة الحاكم الذي يتساقط كلام المنافقين على رأسه فيقتله في بطء وهو لا يدرى.
فالمبالغة في تصوير الحاكم، جسدا وعزيمة وفهما وإرادة وتصرفا وانحيازا لمقتضيات مهمته، تصنع بمرور الوقت مفارقة ساخرة، فإن قال عنه منافقوه، لاسيما إن كانوا قد صاروا مشهورين بين الناس بهذه الخصلة الممقوتة، إنه عظيم رآه المحكومون ضئيلا، وإن قالوا عنه فهيما رأوه معطوب الذهن، وإن قالوا محبا لشعبه، رأوه على النقيض، وإن قالوا طيب النية، بان سيئ الطوية.
ويصنع كلام المنافقين تلالا من المبالغات السياسية التي تؤدى إلى فقدان الاصطلاحات معناها الحقيقي، بفعل ابتذالها على ألسنة العموم، فتتملكهم حيالها مشاعر السخرية والشك والتأفف والصدود، فلا يرون اصطلاحات مثل “أزهى عصور الديمقراطية” و”عهد الإنجازات الهائلة” و”الرئيس الضرورة” و”الزعيم الأوحد” و”القيادة التاريخية” إلا أنها عبارات جوفاء، تزيد من جعل الواقع أكثر قبحا وجهامة..
والمبالغات المصاحبة للنفاق الزاعق المتجاوز للأخلاق والأعراف، أو المناقض التام للواقع، تؤدى إلى عكس ما يريده الحاكم الممدوح، أو المتزلف إليه. والذروة في هذا ربما تكون ما جاء على لسان الشاعر ابن هانئ الأندلسي، الذي أطلق عليه لقب متنبي المغرب العربي، في مدح الخليفة الفاطمي المعز لدين الله الفاطمي، الذي كان أتباعه ينظرون إليه على أنه ظل الله على الأرض أو الحاكم باسم السماء، حيث قال له:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار** فاحكم فأنت الواحد القهار
وكأنما أنت النبي محمد ** وكأنما أنصارك كالأنصار
أنت الذي كانت تبشرنا به ** في كتبها الأحبار والأخبار
ورغم أن المبالغة تراجعت مع البيت الثاني ثم الثالث، حيث أنزل الحاكم من مقام الله إلى مقام النبوة، أو من اللاهوت إلى الناسوت، فإن صورة هذه المبالغة ظلت متجاوزة إلى أبعد حد الواقع، فأساءت إلى الحاكم، في وقت قولها وحتى أيامنا تلك، إذ يتم استدعاء القصيدة في سياق الدلالة على النمط “الثيوقراطي” لحكم الفاطميين، وهو ما يتم توظيفه في حيز أوسع يرتبط بالخلاف المذهبي المشحون بحمولات السياسة ومقتضياتها، بقدر ما يتم استدعاؤه للبرهنة على بلوغ النفاق حدا لا يطاق، تجاوز قول شاعر آخر في الرشيد “كأنك من بعد الرسول رسول” أو وصف الخليفة العباسي المتوكل “ظل الله الممدود بينه وبين خلقه”، وكل أبيات النفاق التي أنشدت في مدح ملوك بني أمية.
ومقارنة بهذا يظل بيت النابغة الذبياني الذي مدح به النعمان أبو قابوس ملك الحيرة، عاديا، رغم ما انطوى عليه من مبالغة سياسية، حيث قال له:
ألم تر أن الله أعطاك سورة ** ترى كل ملك دونها متذبذب
فإنك شمس والملوك كواكب ** إذا طلعت لم يبد منهن كوكب
وإذا كان بعض الشعراء من منشدي “قصائد المديح” وبعض الوعاظ والفقهاء والأدباء من صانعي “الآداب السلطانية” كانوا هم الذين ينتجون النفاق السياسي في تاريخ العرب الوسيط، وسبقهم بعض الكهنة وكتبة المسرح والمتفلسفة في تاريخ أمم أخرى، فإن منتجي النفاق في زماننا موزعون على كتاب صحفيين ومذيعي تليفزيون وإذاعة وسياسيين وفنانين ورياضيين وتجار وكبار موظفين وأصحاب أموال وأعمال ويصل الأمر إلى بعض العوام، ممن يرجون من نفاقهم نفعا أو يتقون به شرا.
ويعبر د. ياسر ثابت في كتابه “صناعة الطاغية” عن هذا الوضع قائلا: “النفاق السياسي في بلادنا لصاحب السلطة والنفوذ، سواء أكان رئيسا أو وزيرا أو محافظا، قد يأخذ طابعا إعلانيا صاخبا. فهو لا يكتفي بالدعاء له أو بالتصفيق له عند مروره أمامه؛ بل إنه يدبج له قصائد المديح وربما يكتب المقالات في الجرائد تأييدا ومباركة للقرار الفريد أو اللفتة التاريخية لهذا المسؤول أو ذاك؛ وإذا توفى لهذا الكبير خال أو عمة، وكان صاحبنا من رجال المال والأعمال، فإنه لا يكتفي بإرسال برقية عزاء أو بالمشاركة في تشييع الجنازة؛ بل لا بدّ من نشر صفحة أو ربع صفحة للقراء في كبرى الصحف”.
ويغرق خطاب المنافقين في مجازات سياسية، كثير منها عابر ومستهلك ومكرور، فما يقوله المنافق التاريخي لحاكم اليوم، سبق أن قاله لحاكم الأمس، الذي ما إن ترك الحكم – ميتا أو مقتولا أو معزولا- حتى هجاه، أو تنصل منه، بعد أن تحين اللحظة المناسبة للقفز من سفينته الغارقة. وتزداد مبالغات المنافقين في اللحظات السياسية الفارقة، أو المراحل الحاسمة والظروف الاستثنائية المعقدة التي يكون فيها المجتمع غير متزن، ومهيأ بصورة غير عادية لتقبّل ما يبثه المنافقون من دعايات كاذبة ومقولات تضليل مريبة وإشاعات لتزييف الحقائق، ومنها لحظة تولي الحاكم، أو إن كان الصراع بينه وبين غيره على الحكم قد بلغ مداه، أو في وقت الانتخابات التي يمتد فيها النفاق السياسي من مداهنة الحاكم إلى محاولة استرضاء الرأي العام بمجاملته على حساب الحقيقة الواقعية؛ بما يؤدى إلى الإضرار بالسوية الاجتماعية، وإذكاء الخلافات، وإثارة النعرات، وتوسيع دوائر الفساد.
وصارت المناسبة الأخيرة فرصة متكررة لممارسة النفاق السياسي حتى وجدنا توفيق الحكيم يقدم في كتابه “تحت شمس الفكر” اقتراحا بغية تقليص هذا النفاق إلى أدنى حد تكوين “شركة مقاولات انتخابات” يدفع لها المرشح مقابل أن تقوم بالدعاية له من تجهيز الخطباء ونصب اللافتات وإعداد الولائم، ثم يعود إلى بيته لينام، وهنا يقول موجها كلامه إلى المرشح: “يجلس الناخب في سرادق الاحتفال الذي تقيمه الشركة، فيرى ويسمع اللذيذ الطريف، يرى خطباء الشركة قد قاموا، أو اعتلوا المنصة واحدا تلو الآخر، يوسعونه مدحا، ويسردون تاريخ حياته الحافل بكل جليل ومجيد، ويتكلمون في ذمته وطهره وكفايته ونزاهته، وهو لم يرهم ولم يروه مرة قط! ثم يعرجون على خصمه فيطعنون فيه الطعن المر، ويذكرون من خصاله الذميمة وأعماله الخبيثة وخياناته وسفالاته ما تشمئز منه النفوس، وما تكاد تختم هذه الحفلات على خير أو شر حتى تقدم الشركة فاتورة الحساب، فإذا استكثرت المبلغ أقسموا لك أن الشركة قامت بنفقات باهظة.. إلى هنا لا بأس، لكن لو خطر لك أن تسير قليلا في البلدة لوجدت عجبا، فإن سرادقا آخر قد نصبته عين الشركة لخصمك هو هو أيضا، وقد قام فيه خطباء آخرون من الشركة يمدحون الخصم، ويغسلون عنه ما لحق به في السرادق الأول، وينزلون بك أنت كل تهمة وكل عيب”.
وهذا اللون من المبالغات المتناقضة يتماشى إلى حد بعيد مع ذلك التناقض في أداء المنافق وتصرفاته التي عبر عنها حديث منسوب إلى الرسول (صلى الله عليه وسلم) يصف فيه المنافق بأنه «إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان». وهذا التناقض، وذلك الإفراط في المبالغة ربما يشكل عبئا على صاحبه، لأنه يدرك أنه يكذب جبنا أو طمعا؛ وهو ما يعبر عنه على بن أبى طالب رضي الله عنه بقوله: “إن من النفاق ما هو أصعب احتمالا على أصحابه من الصراحة”. كما أنه صعب على الحاكم إن كان يدرك عواقبه؛ حيث يضر بصورته أمام شعبه، إذ إن النفاق السياسي كان – ولا يزال- السمة المميزة للقادة الغارقين حتى آذانهم في المؤامرات السياسية ويؤكدون بمنتهى الاستهانة بالعقول أنهم أبعد الناس عن المطامع السياسية” كما يقول نبيل راغب.
وحضور المبالغة اللغوية في النفاق؛ والتي تحوي نوعا من المفارقة المذهلة، واضح في كثير من الأقوال التي تصفه. فالأديبة مي زيادة تقول: “من خساسة النفاق أنه يتكلم بلهجة تحاذي الصدق ويتلون بلون الواقع المحسوس”. وتتكرر هذه السمة في أقوال من قبيل: “إن شر النفاق ما داخلته أسباب الفضيلة، وشر المنافقين قوم لم يستطيعوا أن يكونوا فضلاء بالحق، فصاروا فضلاء بشيء جعلوه يشبه الحق”. و”المنافق هو من يمتاز بحلو وعذب الكلام ليقنعك بأنه صادق”. و”المنافق الحقيقي هو الذي لا يدرك خداعه لأنه يكذب بصدق”. وتزيد هذه المفارقة في ظل الاستبداد؛ وهو ما يعبر عنه عبد الرحمن الكواكبي بقوله: “الاستبداد يقلب الحقائق في الأذهان.. فيسوق الناس إلى اعتقاد أن طالب الحق فاجر وتارك حقه مطيع، والمشتكي المتظلم مفسد، والنبيه المدقق ملحد، والخامل المسكين صالح أمين. وقد اتبع الناس في تسميته النصح فضولاً، والغيرة عداوة، والشهامة عتّواً، والحميّة حماقة، والرحمة مرضاً، كما جاروه على اعتبار النفاق سياسة، والتحيل كياسة، والدناءة لطف، والنذالة دماثة”.